كانت المفاجأة كبيرة جداً، ذلك أن زوجته أنجبت له طفلاً أسود وهو وزوجته غير ذلك، فجاء يعرض مشكلته على النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه يتهمها بالفاحشة.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه اعرابي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاماً أسود. فقال: هل لك من ابل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنى كان ذلك؟ قال: أراه عرق نزعه، قال: فلعل ابنك هذا نزعة عرق.
أن غالبية المشكلات الأسرية التي تحدث في مجتمعاتنا العربية ، قد حلها الرسول صلى الله عليه وسلم، بطريقة أظهرت لنا رصيداً رائعاً في فنون التعامل مع المشكلات .
واذا ما نظرنا في هذه المشكلة سوف نجد أن الطريق لحلها قد آخذ عدة طرق كالآتي :
// الرجوع إلى أهل الذكر:
أولاً: ضرورة الرجوع إلى أهل الذكر في النائبات، وألا يتصرف الإنسان من تلقاء نفسه في المواقف الشائكة، وعليه ألا ينجر إلى ما تدفعه إليه نفسه المتأزمة خشية الوقوع فيما هو أشد وأنكى، فالصحابي في الموقف رأى أمراً لا يستوعبه، لا يجد له مخرجاً غير التهمة، لكنه لم يصدر حكماً ولم ينفعل ليتخذ إجراء متهوراً رغم أن المشهور عن الأعراب الاندفاع والفورية والحدة، بل رجع إلى المرجعية العالمة العاقلة، والمسلم مطالب حتى في أشد المواقف بألا يتصرف من تلقاء نفسه وأن يرجع إلى أولي الأمر، وغياب هذا الوعي في زمننا أفضى بالبعض إلى قتل ابنته أو زوجته لمجرد الشك والظن وبعضه إثم، ثم تبين لعدد منهم بعد التحري أن ظنهم سيء كله.
ثانياً: إن مخاطبة الناس بما يفقهون من لغة ومنطق ومعادلات أمر مهم جداً، فهو يقيم الحجة ويختصر الزمن والطريق، وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالرجل من الأعراب أي أنه من أهل الإبل، ولذا ضرب له النبي صلى الله عليه وسلم مثالاً من بيئته، فكان سكون الرجل وقبوله بالمعادلة، وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يخاطب الناس بما يفقهون وما يستوعبون ما يتناسب وأعرافهم وطباعهم، فكان ذلك أدعى للقبول والتأثير.
//تقديم حسن الظن:
ثالثاً: الأصل في الناس البراءة، فعلى المصلح الاجتماعي ومن أنيط به النظر في شؤون الأسرة تقديم حسن الظن وتعزيز هذا المعنى في نفوس الأزواج والزوجات حال الخلاف، لا تعزيز التوجه السلبي القائم على الشك والتهمة، وهذا المعنى تراه جلياً في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرجل المتهم ضمنياً زوجته بالفاحشة، فأول رد النبي صلى الله عليه وسلم كان “هل لك من إبل...”، بينما تجد في واقعنا المعاصر من يشجع الزوج على ما ذهب إليه بل قد يدعوه إلى الثأر.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم حينما تعرض عليه المشكلات الأسرية يتأنى ويطلب كل الأطراف المعنية ولا يصدر أحكاماً سريعة، يشهد بذلك غير واحد من المواقف التي عرضت عليه، كما في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن عنده فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت، ويفطرني إذا صمت، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، قال: وصفوان عنده، قال: فسأله عما قالت، فقال: يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ بسورتين وقد نهيتها، قال: فقال: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس، وأما قولها يفطرني فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب فلا أصبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: “لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها”، وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس فإنا أهل بيت قد عرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: فإذا استيقظت فصل. وغير هذا الموقف كثير.
//استنطاق صاحب المشكلة:
رابعاً: من الفنون الرائعة في حل المشكلات استنطاق صاحب المشكلة، لا فرض الإجابات عليه ليكون أولاً حجة عليه، ثم لينصرف ذهنه عن التفكير السلبي، وهذا ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع الرجل، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يسأل والرجل يجيب على كل سؤال، ثم يعلق الرسول صلى الله عليه وسلم موجهاً الرجل إلى التفكير الإيجابي.
خامساً: الالمام بعلوم الأسرة أمر مهم جدا لمن تصدر حل المشكلات الأسرية، فالرسول صلى الله عليه وسلم حل المشكلة لإلمامه بعلم الوراثة، وهذا توجه مبارك نراه في كثير من الجامعات، حيث يوجد قسم متخصص في علوم الأسرة، يخرّج متخصصين ملمين بكل جوانب الأسرة جسديا ونفسيا واجتماعيا، ولو أضافوا إلى ما سبق فقه الأسرة لكان أشمل وأعم وأفضل.
سادساً: في الحديث اشارة إلى تخير كل من الرجل والمرأة ما يناسب رغباته منعا لأي تطورات قد تضر بالأسرة، ولهذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاختيار فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء وأنكحوا إليهم”.
سابعاً: من أسباب نجاح من تصدر حل المشكلات الأسرية تحليه باللباقة وسرعة البديهة والاستيعاب المباشر للآخر، ففي ذلك منع للإحراج، فالأعرابي ما صرح بالاتهام، لكن يشم ذلك في طي كلامه، فما استنطقه النبي صلى الله عليه وسلم ليفهم منه مراده، حتى لا يحرج الرجل، وحتى يمنعه من التصريح بأن زوجته أنجبت طفلا أسود فلعلها زنت، وهذا الاستيعاب السريع واللباقة، حفظ للرجل ماء وجهه، وللزوجة كرامتها، وحتى لا يكون في تاريخه أنه اتهم زوجته ففي ذلك إيذاء لمشاعرها، أما بعض من يتصدر هذه الأيام فإنه يخالف ذلك والله المستعان.
ثامناً: الراغب في حل المشكلات والحريص على الأسرة والعارف بالنفوس لا يشتغل بالتأنيب والوعظ والتقريع في غير وقته، فالملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم ما انشغل بتأنيب الصحابي وتقريعه في أمر اتهامه ضمنيا لامرأته، إنما انصرف فداه أبي وأمي صلى الله عليه وسلم إلى العلاج، فهو الأولى هنا، ثم حين يدرك المشتكي سوء ظنه فسيكون ذلك كفيلا بتوجيهه في المشكلات المقبلة إلى حسن التفكير والظن.